Course info
تعريف الفصاحة وشروطها وعلاقتها بالبلاغة
أهم جهود البلاغيين، وعن أهم ما كتب في علوم البلاغة، للحديث عن الفصاحة باعتبارها جزءًا وقيدًا في تعريف البلاغة، كما سنعرف فيما بعد، وللحديث أيضًا عن علاقتها -أي الفصاحة- بالبلاغة؛ إذ من المعلوم أن طائفة من البلاغيين ظلت حتى عصر عبد القاهر الجرجاني لا تفرق بين الفصاحة والبلاغة؛ لالتقائهما في الإبانة عن المعنى وإظهاره، وإن فرق بينهما المعنى اللغوي، ومن هؤلاء عبد القاهر الجرجاني نفسه، فإنه لم يكن يفرق بين المعنيين؛ حيث فسر الفصاحة في (دلائل الإعجاز) بأنها خصوصية في نظم الكلم، وضم بعضها إلى بعض على طريقة مخصوصة. ولكن طائفة أخرى من البلاغيين كانت تصر على التفريق بين المعنيين وفاء بحق المعنى اللغوي لكل منهما، ومن هؤلاء أبو هلال العسكري المتوفى سنة ٣٩٥، فقد فرق بينهما موضحًا أن الفصاحة مقصورة على اللفظ، والبلاغة مقصورة على المعنى إلى أن حسم هذا الأمر معاصر عبد القاهر الجرجاني ابن سنان الخفاجي المتوفى سنة 466ه.
الفصاحة في اللغة: هي الظهور والبيان ويوصف بها الكلمة والكلام والمتكلم. فيقال: كلمة فصيحة، وكلام فصيح، ومتكلم فصيح، والبلاغة في اللغة تنبئ عن الوصول والانتهاء والإتقان والجودة، ويوصف بها الكلام والمتكلم فقط. فيقال: كلام بليغ، ومتكلم بليغ، ولم يسمع كلمة بليغة إلا أن يقصد بالكلمة خطبة أو قصيدة، فيكون من المجاز أعني من إطلاق الجزء وإرادة الكل.
ولما كانت معرفة البلاغة متوقفة على معرفة الفصاحة لكونها مأخوذة في تعريف البلاغة، وجب علينا البدء بالتعرف على ملامح الفصاحة، ولما كانت لابن سنان الخفاجي المتوفى سنة ٤٦٦ قدم راسخة في معرفة حقيقة الفصاحة، وجعلها معيارًا نقديًّا أصيلًا من المعايير البلاغية والنقدية من خلال كتابه (سر الفصاحة) فقد وجب علينا أيضًا معرفة ما أتحف به العربية من لطائف نقدية في هذا المجال؛ لنؤكد الصلة الوثيقة بين كل من الفصاحة والبلاغة من جهة، والنقد الأدبي الأصيل من جهة أخرى، ولننهي العزلة التي فرضها المتأخرون من البلاغيين على البلاغة العربية.
وإليك ما قاله ابن سنان الخفاجي في هذا المجال، أورد ابن سنان الخفاجي في كتابه (سر الفصاحة) أن الفصاحة لغة: هي الظهور والبيان، ومنها قولهم: أفصح اللبن، إذا انجلت رغوته، وفصح فهو فصيح، قال الشاعر:
وتحت الرغوة اللبن الفصيح
وقال: "أفصح الصبح إذا بدا ضوءه، وأفصح كل شيء إذا وضح، وفي الكتاب العزيز: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ} (القصص:34) وفصح النصارى: عيدهم، وقد تكلمت به العرب، قال حسان بن ثابت:
ودنا الفصح فالولائد ينظمن ... سراعًا أكلّة المرجان
قال: ويجوز أن يكون ذلك لاعتقادهم أن عيسى -عليه السلام- ظهر فيه. ولكن صاحب (البغية) يرى أن هذه الكلمة عبرية لا عربية، وهي بمعنى الصفح؛ لأن الله تعالى صفح في يوم هذا العيد عن بني إسرائيل، وأخرجهم مع موسى -عليه السلام- من مصر
وسمي الفصيح فصيحًا كأنهم سموه بيانًا؛ لإعرابه عما عبر به عنه، وإظهاره له إظهارًا جليًّا، وقد روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ((أنا أفصح العرب بيد أني من قريش)) ". ثم فرق ابن سنان بين الفصاحة والبلاغة بأن الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ، ولكن البلاغة لا تكون إلا وصفًا للألفاظ مع المعاني، فلا يقال في كلمة واحدة لا تدل على معنى يفضل عن مثلها: بليغة، وإن قيل فيها: فصيحة. وكل كلام بليغ فصيح، وليس كل فصيح بليغًا، كالذي يقع فيه الإسهاب في غير موضعه؛ أي في غير موضع الإسهاب؛ لأن البلاغة -كما سنذكر- تزيد عن الفصاحة بأن بها مطابقة مقتضى الحال.
ثم بين ابن سنان أن الناس قد حدوا البلاغة بحدود، إذا حققت كانت كالرسوم والعلائم وليست حدودًا صحيحة، كقول بعضهم في تعريف البلاغة مثلًا: لمحة دالة. وقول آخر: البلاغة معرفة الفصل من الوصل. وقول آخر: البلاغة أن تصيب فلا تخطئ، وتسرع فلا تبطئ. وقول من قال: البلاغة اختيار الكلام وتصحيح الأقسام. ثم بدا الكلام على شروط لفصاحة اللفظة المفردة وفصاحة الألفاظ المنظومة بعضها مع بعض، فأورد ابن سنان شروطًا لفصاحة اللفظة المفردة، وجعلها أيضًا شروطًا لفصاحة الألفاظ المنظومة بعضها مع بعض، بعد أن عقد صلة وثيقة بين الفصاحة والبلاغة من جهة، وبين النقد الأدبي من جهة أخرى، وهذه الشروط هي ما يلي:
أولًا: أن يكون تأليف اللفظة من حروف متباعدة المخارج؛ لأن الحروف التي هي أصوات تجري في السمع مجرى الألوان من البصر، ولا شك أن الألوان
لمتباعدة المتباينة إذا جمعت كانت في المنظر أحسن من الألوان المتقاربة، وقد قال الشاعر في هذا المعنى:
فالوجه مثل الصبح مبيض ... والفرع مثل الليل مسود
ضدان لما استجمعا حسنا ... والضد يظهر حسنه الضد
ثانيًا: أن تجد لتأليف اللفظة في السمع حسنًا ومزية على غيرها، وإن تساويا في التأليف من الحروف المتباعدة، كما أنك تجد لبعض النغم والألوان حسنًا يتصور في النفس، ويدرك بالبصر والسمع دون غيره مما هو من جنسه، مثاله في الحروف: العين مع الذال مع الباء، فإن السامع يجد لقولهم: العذيب. اسم موضع وعذيبة اسم امرأة وعَذْب وعَذُب وعذبات، ما لا يجده فيما يقارب هذه الألفاظ في التأليف، وليس سبب ذلك بعد الحروف في المخارج فقط، ولكنه تأليف مخصوص مع البعد، ولو قدمت الذال أو الباء لم تجد الحسن على الصيغة الأولى في تقديم العين على الذال بضرب من التأليف في النغم، يفسده التقديم والتأخير. وليس يخفى على أحد أن تسمية الغصن غصنًا وفَنَنًا أحسن من تسميته عُسْلُوجًا، وأن أغصان البان أحسن من عساليج الشَّوْحَط في السمع، والشوحط شجر يتخذ منه القسي أو الرماح. ثالثًا: أن تكون الكلمة -كما قال الجاحظ- غير متوعرة وحشية، كقول أبي تمام:
لقد طلعت في وجه مصر بوجهه ... بلا طائر سَعْلٍ ولا طائر كهل
فإن كهلًا ها هنا من غريب اللغة، وقد روي أن الأصمعي لم يعرف هذه الكلمة، وليست موجودة إلا في شعر بعض الهذليين، وهو قوله:
فلو كان سلمى جاره أو أجاره ... رباح بن سعد رده طائر كهل
ومن ذلك ما يروى عن أبي علقمة النحوي من قولهم: ما لكم تتكأكئون، وافْرَنْقِعُوا؛ لأنها كلمات وحشية. رابعًا: أن تكون الكلمة غير ساقطة عامية، كما قال الجاحظ أيضًا، ومثال الكلمة العامية قول أبي تمام:
جَلَّيْتُ والموت مُبْدٍ حُر صفحته ... وقد تَفَرْعَنَ في أفعاله الأجل
فإن تفرعن مشتق من اسم فرعون، وهو من ألفاظ العامة، وعادتهم أن يقولوا: تفرعن فلان إذا وصفوه بالجبرية، فأما قول أبي الطيب المتنبي:
إني على شرفي بما في خمرها ... لأعف عما في سراويلاتها
فلا شيء أقبح من ذكر السراويلات. خامسًا: مقاييس الفصاحة عند ابن سنان الخفاجي أن تكون الكلمة جارية على العرف العربي الصحيح غير شاذة، ويدخل في هذا القسم ما ينكره أهل اللغة، ويرده علماء النحو من التصرف الفاسد في الكلمة، وقد يكون ذلك لأجل أن اللفظة بعينها غير عربية، كما أنكروا على أبي الشيص قوله:
وجناح مقصوص تحيف ريشه ... ريب الزمان تحيف المقراض
وقالوا: ليس المقراض من كلام العرب وقد تكون الكلمة عربية؛ إلا أنها قد عبر بها عن غير ما وضعت له في عرف اللغة، كما قال البحتري:
تشق عليه الريح كل عشية ... جيوب الغمام بين بكر وأيم
فوضع الأيم مكان الثيب، وليس الأمر كذلك، فليست الأيم هي الثيب في كلام العرب، وإنما الأيم هي التي لا زوج لها بكرًا كانت أو ثيبًا كما قال تعالى:
{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} (النور: 32) وليس مراده تعالى نكاح الثيبات من النساء دون الأبكار، وإنما يريد اللواتي لا أزواج لهن، وقد يكون من الشاذ مما أنكره أهل اللغة ما جاء به حذف من الكلمة، كما قال النجاشي:
فلست بآتيه ولا أستطيعه ... ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل
أراد: ولكن اسقني. وقد يكون على وجه الزيادة في الكلمة مثل أن يشبع الحركة فتصير حرفًا كما قال ابن هرمة في رثاء ابنه:
وأنت على الغواية حيث ترمى ... وعن عيب الرجال بمنتزاح
أي ببعيد عنه، وقد يكون لأن الكلمة بخلاف الصيغة في الجمع أو غيره، كما في قول الطرماح:
وأكره أن يعيب علي قومي ... خجايا الأرذلين ذوي الحِنات
فجمع إحنة على غير جمع الصحيح لأنها إحنة وإحن، ولا يقال حنات، ومن هذا الفصل أن يبدل حرف من حروف الكلمة بغيره، كما في قول شاعر:
لها أشارير من لحم منمرة ... من الثعالي ووخز من أرانيها
يريد من الثعالب وأرانبها. ومنها إظهار التضعيف في الكلمة مثل قول الشاعر:
مهلًا أعازل قد جربت من خلقي ... إني أجود لأقوام وإن ضننوا
وأما صرف ما لا ينصرف كقصر الممدود، ومد المقصور، وحذف الإعراب للضرورة، وتأنيث المذكر، وتذكير المؤنث فإن هذا وأشباهه وما يجري مجراه، وإن لم يؤثر في فصاحة الكلمة كبير تأثير؛ فإنني أوثر صيانتها عنه هكذا يقول ابن سنان؛ لأن الفصاحة تنبئ عن اختيار الكلمة وحسنها وطلاوتها، ولها من هذه الأمور صفة نقص فيجب طرحها.
- Teacher: Benyahia Naous